فصل: فصل في بناء العبودية وقواعدها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في بناء العبودية وقواعدها:

وبنى: {إِيَّاكَ نَعْبُد} على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح.
فالعبودية: اسم جامع لهذه المراتب الأربع فأصحاب: {إِيَّاكَ نَعْبُد} حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له والقيام بذكره وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به وعنه والموالاة فيه والمعاداة فيه والذل له والخضوع والإخبات إليه والطمأنينة به وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.
ف: {إِيَّاكَ نَعْبُد} التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها و: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلب للإعانة عليها والتوفيق لها و: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما وسلوك طريق السالكين إلى الله بها.

.فصل: التوحيد دعوة الأنبياء جميعًا:

وجميع الرسل إنما دعوا إلى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم فقال نوح لقومه: [7: 59]: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وكذلك قال هود وصالح وشعيب 7: 65، 73، 85 وإبراهيم. قال الله تعالى 16: 36: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال 21: 25: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى 23: 51 52: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.

.فصل: فضل العبودية:

والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه فقال: [4: 172]: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} وقال: [7: 206]: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وهذا يبين أن الوقف التام في قوله في سورة الأنبياء: [21: 19]: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
هاهنا ثم يبتدئ: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} فهما جملتان تامتان مستقلتان أي إن له من في السماوات ومن في الأرض عبيدا وملكا ثم استأنف جملة أخرى فقال: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} يعني أن الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته يعني لا يأنفون عنها ولا يتعاظمون ولا يستحسرون فيعيون وينقطعون يقال: حسر واستحسر إذا تعب وأعيا بل عبادتهم وتسبيحهم كالنفس لبني آدم فالأول: وصف لعبيد ربوبيته والثاني: وصف لعبيد إلهيته وقال تعالى: [25: 63 77]: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} إلى آخر السورة وقال: 76: 6: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وقال: 38: 17: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد} وقال: 38: 41: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوب} وقال: 38: 45: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وقال عن سليمان: 38: 30: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب} وقال عن المسيح: 43: 59: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْد أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} فجعل غايته العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى ووصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته فقال تعالى 2: 25: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَاب} فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه وقال: 17: 1: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} فذكره بالعبودية في مقام الإسراء وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله» وفي الحديث: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد». وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو قال: «قرأت في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر».
وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده فقال تعالى: 39: 18: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وجعل الأمن المطلق لهم فقال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْف عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به فقال: 15: 42: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وقال: 16: 99، 100: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَان عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين وهو الإحسان فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

.فصل: في لزوم: {إِيَّاكَ نَعْبُد} لكل عبد إلى الموت:

قال الله تعالى لرسوله: [15: 99]: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وقال أهل النار: [74: 46، 47]: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} واليقين هاهنا: هو الموت بإجماع أهل التفسير وفي الصحيح في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه». أي الموت وما فيه فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويلتمسان منه الجواب وعليه عبودية أخرى يوم القيامة يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود فيسجد المؤمنون ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا.
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والإنسلاخ من دينه بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم والواجب على أولى العزم: أعظم من الواجب على من دونهم والواجب على أولى العلم أعظم من الواجب على من دونهم وكل أحد بحسب مرتبته.

.فصل: في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة:

العبودية نوعان: عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فهذه عبودية القهر والملك قال تعالى: 19: 88، 93: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم. وقال تعالى 25: 17: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء} فسماهم عباده مع ضلالهم لكن تسمية مقيدة بالإشارة وأما المطلقة فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني كما سيأتي بيانه إن شاء الله.وقال تعالى: 39: 46: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وقال: 40: 31: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر قال تعالى: 43: 68: {يَا عِبَادِ لا خَوْف عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} وقال: 39: 18: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وقال: 25: 63، 64: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} وقال تعالى: عن إبليس 15: 40: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فقال تعالى عنهم: 15: 41: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان}.فالخلق كلهم عبيد ربوبيته وأهل طاعته وولايته: هم عبيد إلهيته. اهـ.

.قال الفخر:

.الفصل الخامس: في تفسير قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}:

فوائد في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}:
معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

.الفائدة الأولى: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير:

العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير، وهو مأخوذ من قولهم: طريق معبد، أي مذلل، واعلم أن قولك إياك نعبد معناه لا أعبد أحدًا سواك، والذي يدل على هذا الحصر وجوه: الأول: أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به، فالمرتبة الأولى وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وإليها الإشارة بقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] الآية والمرتبة الثانية وهي خلق المنتفع به وإليها الإشارة بقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيم} [البقرة: 29] فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى، فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى، فلهذا المعنى قال إياك نعبد، فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر.
الوجه الثاني: في دلائل هذا الحصر والتعيين: وذلك لأنه تعالى سمى نفسه هاهنا بخمسة أسماء: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، و{مالك يوم الدين}، وللعبد أحوال ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل: أما الماضي فقد كان معدومًا محضًا كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] وكان ميتًا فأحياه الله تعالى كما قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] وكان جاهلًا فعلمه الله كما قال: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديمًا أزليًا، فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى، وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدومًا كان محتاجًا إلى الرب الرحمن الرحيم، أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عند أسباب الضرورات، فقال الله تعالى: أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود.
أما بعد أن أصرت موجودًا فقد كثرت حاجاتك إليّ فأنا رب رحمن رحيم، وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله {مالك يوم الدين}، فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكمل إلا بالله وفضله وإحسانه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى، فلا جرم قال العبد {إياك نعبد وإياك نستعين} على سبيل الحصر.
الوجه الثالث: في دليل هذا الحصر، وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادرًا عالمًا محسنًا جوادًا كريمًا حليمًا، وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه؛ لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى، ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكًا فيه، فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبودًا للخلق أمر يقيني، وأما كون غيره معبودًا للخلق فهو أمر مشكوك فيه، والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك، فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
الوجه الرابع: أن العبودية ذلة ومهانة إلا أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ، ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره، وأيضًا قدرة الله تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره، فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره، فلهذا السبب قال {إياك نعبد وإياك نستعين}.
الوجه الخامس: أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكنًا لذاته وكل ما كان ممكنًا لذاته كان محتاجًا فقيرًا والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير، والشي ما لم يكن غنيًا في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو الله تعالى فدافع الحاجات هو الله تعالى، فمستحق العبادات هو الله تعالى، فلهذا السبب قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
الوجه السادس: استحقاق العبادة يستدعي قدرة الله تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة، وأرضًا بلا دعامة، ويسير الشمس والقمر، ويسكن القطبين، ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق، وتارة الهواء وهي الريح، وتارة الماء وهو المطر، وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر، وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجسامًا مقيمة لا تسافر وهي الجبال؛ وأجسامًا مسافرة لا تقيم وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه، ورفع محمدًا عليه الصلاة والسلام فجعل قاب قوسين تحته، وجعل الماء نارًا على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا نارًا، وجعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، ورفع موسى فوق الطور، وقال له: {فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] ورفع الطور عى موسى وقومه: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} [البقرة: 63] وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله: {وَفَارَ التنور} [هود: 40] وجعل البحر يبسًا لموسى عليه السلام، فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك، فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه.